2008/08/29

الاستبداد وآليات إعادة انتاجه والسبل الممكنة لمواجهته

الاستبداد وآليات إعادة انتاجه والسبل الممكنة لمواجهته
(تطبيق على المملكة العربية السعودية)
الأستاذ توفيق السيف
بيـئـة الاستبدادهي استعارة من المرحوم مالك structural limitations القابلية الاجتماعية للاستبداد بن نبي الذي طرح فكرة "القابلية للاستعمار" كأداة لتفسير تغلغل الاستعمار في البلدان الإسلامية. كل نظام اجتماعي (بما هو منظومات قيم ، وتوازنات ، ونمط إنتاج) يسمح بخيارات محددة ويمنع أخرى . هذه المفاضلة وتجلياتها الواقعية ليست قرارا واعيا ونهائيا ، بل هي محصلة موضوعية للتفاعل بين مجموع العناصر التي تشارك في تكوين الحياة الاجتماعية إضافة إلى تأثير العوامل الخارجية. القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليس ردة فعل مؤقتة على ازمة اقتصادية او سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلا ، بل نمط ثقافي-اجتماعي يتمتع باستمرارية وعلاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. وسوف تركز هذه المقالة على العوامل الثقافية في هذا النمط . الثقافة السياسية لمجتمع ما - حسب وصف الموند – هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين ، كما تحدد صور العلاقة بينهما ونوعية الافعال وردود الافعال المتوقعة من جانبهم[1].خيار السلطة المستبدة يصبح مرجحا عندما يفشل المجتمع في استنباط نظام عمل اجماعي لادارة شؤونه العامة . فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية ، فان العوامل التي رجحت هذا الخيار في الحقبة التاريخية التي شهدت قيام الدولة ، هي : ذهنية الخضوع ، التفكك ، والطرفية.1- ذهنية الخضوع: ونعني بها هنا المستخلصات العامة التي تمثل مرجعية للتفكير الفردي والعقل الجمعي على السواء . رغم التنوع الذي يحفل به تاريخ المسلمين القريب والبعيد ، الا ان الصورة العامة التي يستذكرها معظم الناس عن علاقة المجتمع بالدولة في معظم العصور الاسلامية هي صورة حاكم فرد ورعية طائعة . هذه الصورة جرى تعميمها وتبريرها على اساس ديني حينا واخلاقي حينا اخر[2] في ظل غياب حراك علمي يقوم على المناقشة والنقد ومراجعة الحقائق والمنقولات . فحتى وقت قريب كانت معرفة الجمهور بالتاريخ هي مزيج من نقل الوقائع وتبريرها . وفي كلا الحالتين ، فقد كان النقل والتبرير عملية انتقائية تستهدف تثبيت منهج خاص في العمل السياسي يدور حول تشريع حكم المتغلب . في هذا المنهج يعتبر وجود حاكم مقتدر نعمة الهية وضرورة لا غنى عنها لحفظ النظام العام ، وينظر الى العامة باعتبارهم غوغاء وغثاء ، والى تحركهم باعتباره فتنة وخروجا عن الجادة[3].هذا النوع من الثقافة لا ينظر الى السلطة السياسية باعتبارها مؤسسة اجتماعية اعتيادية ، بل ناديا خاصا لطبقة تختلف عن عامة الناس . الحصول على السلطة هو تطور طبيعي ، بل قدر مكتوب لاشخاص محددين بسبب هوية موروثة او مزية طبيعية او نعمة غير مترقبة هبطت من السماء. وبناء عليه فان العمل السياسي ليس منشطا اجتماعيا عاديا متاحا لكل الناس . كما ان سعي الافراد العاديين للسلطة ليس من الامور التي تحظى بالتاييد او الاستحسان . في حقيقة الامر فان الوصول الى السلطة هو مطمح لكل فرد في هذا النوع من المجتمعات ، لكن السلطة في الوقت ذاته بغيضة ومخوفة وهي تكثيف لكل عيوب الدنيا ، فالسعي اليها انجراف وراء زخرف الحياة الدنيا وانحراف عن الطريق القويم[4] .2- التفكك :تألفت المملكة العربية السعودية من ضم عدد من الاقاليم تمتد بين البحر الاحمر والخليج العربي افقيا ، وبين اليمن وتخوم الشام والعراق عموديا. رغم انتماء جميع السكان في هذه الاقاليم الى الاطار العربي الاسلامي ، الا ان كلا منها تاثر بتجربة تاريخية مختلفة كما اعتمد نمطا خاصا في المعيشة ، وبالتالي فقد حصل كل منها على شخصية تنطوي على تمايز يمكن اعتباره في ادنى التقادير درجة من النمو مختلفة . يستمد التفكك مبرراته ايضا من نمط الانتاج السائد في مختلف اقاليم البلاد ، والذي يتسم بانعدام الفائض الراسمالي الذي يستدعي قيام علاقة مصالح تفاعلية بين المناطق المختلفة . وهي سمة لاحظها كل دارسي المناطق الشبيهة للجزيرة العربية . واظن ان اقرب النماذج التي يمكن مقارنتها هنا هو نموذج الاقتصاد السياسي للمناطق القاحلة كما عرضه المفكر الايراني هما كاتوزيان[5] . هذا النموذج اكثر قربا لواقع الجزيرة عند الاخذ بعين الاعتبار علاقة الاقتصادي بالسياسي ضمن الاقليم الواحد ، وضمن حدود معينة اذا اخذ بعين الاعتبار مجموع الاقاليم كوحدة واحدة [6].تمايزت مناطق الجزيرة العربية عن بعضها بفوارق مذهبية ، ومعيشية ، واختلاف في مستويات الثقافة ، كما كانت هناك منظومات سلطة محلية شبه مستقلة. وبالتالي فان الذي جرى تجميعه في الاطار الوطني لم يكن اعدادا من البشر بل منظومات اجتماعية يحمل كل منها هوية خاصة قابلة للمقارنة بالهويات الاخرى[7]. ومن هذه الزاوية فقد كان المؤمل ان يترجم توحيد المملكة في احتواء هذه الهويات الخاصة ضمن هوية جامعة هي الهوية الوطنية . لكن ما حصل فعلا يترواح بين الاهمال التام لهذه الهويات حينا ومحاولة تدميرها واحلال الهوية الثقافية للقوة الغالبة حينا اخر[8]. في الوقت الراهن مثلا ، فان اللباس الوطني للسعوديين هو اللباس النجدي والفولكلور الذي يعرض في المناسبات الرسمية هو العرضة النجدية[9] ، لكن احدا لا يسمع عن الفولكلور الحجازي الغني بالالوان ، او اهازيج البحارة التي اشتهرت في ماضي المنطقة الشرقية.3- الطرفية :لاسباب تاريخية وموضوعية فان السياسة كمنشط حياتي تنحصر في المركز وتغيب نسبيا او تماما في الاطراف . والسياسة المعنية هنا هي بالخصوص الاعمال التي ترتبط بالدولة . ولا يغير من هذه الحقيقة وجود انواع من السلطة في كل قرية او مدينة . ان وجود الدولة كهيئة سياسية محصور في العواصم . اما في الاطراف فهي موجودة كقوة امن. ويترتب على هذا ان الوعي التفاعلي بالسياسة ، اي فهمها والتعامل مع الفاعلين فيها وربما محاولة الاقتراب منها وتجريبها ، محصور من حيث الامكانية في العاصمة[10]. عرض الموند وفربا في بحثهما المشهور عن الثقافة السياسية ثلاثة نماذج قياسية هي ثقافة المشاركة ، وثقافة الخضوع ، وثقافة العزلة. وجرى تعريف النموذج الاول بانه المجتمع الذي يعي تاثير الدولة عليه وقدرته على التاثير فيها، بينما الثاني هو الذي يعي بتاثير الدولة عليه مع عجزه عن التاثير فيها ، اما الثالث فهو الذي لا يشعر بوجود محسوس للدولة في حياته[11]. وثمة ميل واضح بين الباحثين الى امكانية تصنيف النوع الاول باعتباره احتمالا قويا في المراكز الحضرية بينما يكون الاحتمال الثاني قويا في الاطراف والثالث في الارياف او التجمعات السكنية المعزولة.ولا تتوفر معلومات كافية لتاكيد ان النوع الثالث على وجه الخصوص كان موجودا بالفعل في الجزيرة العربية ، رغم ان وجوده يمثل احتمالا قائما . الا انه يمكن القول ان جميع اقاليم الجزيرة العربية التي تشكل الممملكة اليوم ، كانت تاريخيا ضمن الاطراف. ربما كان الحجاز هو المنطقة الوحيدة التي شهدت قيام ما يشبه الدولة – بالمفهوم الحديث – لفترة يسيرة . ولهذا ، وبهذا المقدار تولد فيها وعي بالسياسة والدولة يتجاوز بقية اقاليم الجزيرة . لكن لا بد ايضا من بعض التحفظ هنا اذ ان حكومة الحجاز لم تكن مستقلة تماما ، فقد كانت تابعة للسلطنة العثمانية مثل بقية الاقاليم .بقي التصنيف الى مركز وطرف قائما في ظل الدولة السعودية ، اذ انحصرت ممارسة السياسة في عدد محدود من الافراد يجمعهم نسب وسكن ومذهب ، وتجلى الوعي بهذه الحقيقة في التسمية التي سبقت اعلان اسم المملكة العربية السعودية (سبتمبر 1932) ، حين كانت اقاليم الجزيرة العربية التي امست خاضعة للعرش السعودي تسمى "سلطنة نجد وملحقاتها" .نحن نتكلم عن الاستبداد في معنى الانفراد بالقرار والاستفراد بقوى الدولة المادية والمعنوية ، وهو مفهوم يقابل مفهوم المشاركة او الاشتراك . اذا اخذنا مفهوم المشاركة باعتباره وعيا يرتبط بتجربة ، اي وعيا بالفعل او ثقافة ، فان امكانيته محصورة بتوفر امكانية للحياة السياسية ، اما مع انعدامها كما هو الحال في الاطراف ، فان الكلام يصبح غير ذي موضوع.طبيعة الاستبداد : النموذج البدويشهدت السنوات الاخيرة محاولات جدية من جانب عدد من المفكرين العرب والمسلمين لاعادة تفسير المكون التاريخي للثقافة والنظام الاجتماعي في الشرق الاسلامي ، تركزت في اطارها العام على نقد المنظور التاريخي الذي يماثل تطور المجتمع العربي مع الاوربي ، ولا سيما في افتراض ان الاوضاع الحالية هي استمرار لـ ، او انتقال من مرحلة ساد فيها اقتصاد سياسي يقوم على الاقطاع كمكون رئيس لعلاقات الانتاج . واقترح الجابري مثلا ثلاثة عناصر بديلة لتفسير الحراك التاريخي هي القبيلة ، الغنيمة ، والعقيدة . ويحاكي هذا المنظور الى حد كبير النموذج الذي عرضه ابن خلدون ، ولا سيما ربطه للملك بالعصبية المدعومة بالدعوة الدينية[12] .
---------------

ليست هناك تعليقات: