2009/04/25

البيلهي في أولى مكاشفاته: الوحيد الذي حرر الانسان هو الغرب


إبراهيم البليهي في أولى مكاشفاته :الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة في التاريخ التي حررت الإنسان * ثقافتنا كانت ومازالت مستغرقة بمسائل الحلال والحرام لأنـها أساساً حضارة دينية* لولا منجزات الغرب لكانت حياتنا حياة جدباء قاحل* تمجيد النفس المتخلفة البليدة الراسفة في القيود هو ترسيخٌ للتخلف وتأكيدٌ للأصفاد* التخلف واقعٌ مشينٌ فينبغي أن نسخط عليه ونتخلَّص من أسبابه* الأفراد الذين نفاخر بـهم من أمثال ابن رشد وابن الهيثم والرازي كانوا تلامذة للفكر اليونانينشرت بتاريخ : 27 ربيع الاول 1430 هـبملحق الدين والحياة بصحيفة عكاظأجرى المكاشفات:عبدالعزيز محمد قاسمفي أولى مكاشفاته مع ملحق(الدين والحياة) قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي بأن نقد الذات الكليلة التي يقوم بها هو مفتاح تحريكها وتغييرها نحو الأفضل، ورأى أن تمجيد النفس المتخلفة البليدة الراسفة في القيود هو ترسيخٌ للتخلف وتأكيدٌ للأصفاد، وقال البليهي بأن التخلف واقعٌ مشينٌ ينبغي أن نسخط عليه ونتخلَّص من أسبابه، وأكد البليهي في مكاشفاته أن الحضارة الغربية هي الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة في التاريخ التي حررت الإنسان من قيوده وأصفاده وأن حضارتنا الإسلامية حضارة دينييه اهتمت بمسائل الحلال والحرام والكفر والإيمان فقط، والى تفاصيل المكاشفات :* سأبدأ من القضية المفصلية التي تميز فكر إبراهيم البليهي والتي يواجهه بها معارضوه دوماً وهي الانبهار الكامل بالغرب في مقابل تهوين كامل للعقل العربي..لأن هذا أستاذ إبراهيم أظهر ما يميز كتاباتك.وثمة جلد ذات حاد يميزه الكثيرون، ما هو الباعث لذلك؟ إن موقفي من حضارة الغرب هو موقفٌ يعتمد على الحقائق الجياشة وعلى الانجازات العظيمة وعلى الواقع المفعم بكل ما هو عجيب ورائع ومدهش إنه ليس انبـهاراً أعمى فهو عكس موقف المنكرين الذين يتجاهلون الأضواء الحضارية الباهرة فأدر طرفك فيما حولك من وسائل الحياة وسوف تُبصر أن كل ماهو جميل في حياتنا وحياة غيرنا قد أنتجته الحضارة الغربية حتى القلم الذي بيدك وجهاز التسجيل الذي أمامك والنور الذي يغمرك والجريدة التي تعمل فيها وغير ذلك مما لا حصر له من تسهيلات الحياة ووسائلها التي هي أشبه بالمعجزات والخوارق بالنسبة للحضارات القديمة فلولا منجزات الغرب لكانت حياتنا حياة جدباء قاحلة إن ما فعلتُه هو أنني نظرتُ بموضوعية وقيَّمتُ بعدل وعبَّرتُ بصدق عما أراه فالذي لا يُعجبه الجمال الرائع هو إنسانٌ عديم الحس والذوق والبصيرة فحضارة الغرب قد بلغت القمة في العلوم والتقنيات وأنجزت من المعارف والمهارات والاختراقات والريادة ما لم تعرفه أية حضارة سابقة كما أن إنجازاتـها قد غطت كل مجالات الحياة في التنظيم والسياسة والأخلاق والإقتصاد واحترام الإنسان فمن واجبنا أن نعترف لها بـهذا التميـز المدهش إنـها حضارة تستحق الإعجاب الشديد بل إن الإعجاب يبقى مقصَّراً في حقها مهما بلغ وليس التخلف الفظيع الذي تعيشه بعض الشعوب سوى النتيجة الحتمية لرفض هذا الفيض الزاخر من الأفكار والرؤى والإحتماء بالإنكار والمكابرة... لتعجب ما شاء لك أستاذنا بهذه الحضارة، ولكن ليس على حساب الغير وخصوصا حضارتنا نحن. إن إعجابي بالغرب ليس على حساب الغير وإنما هو دعوة لهذا الغير بأن يتعرَّف على أوهامه وأن يتجاوز هوانه وأن ينعتق من تخلُّفه وأن يعترف بقصوره وأن يجتهد ليتجاوز هذا القصور وأن يربأ بنفسه عن جحد الحقائق والتعامي عن الزخم الهائل من روائع الإنجاز وأن ينصف الأمم التي حققت الازدهار لنفسها فلم تتكتَّم ولم تحتكر وإنما أشركتْ العالم بنتائج هذا التقدم فصار العالم كله ينعم بمنجزاتـها بل وقدَّمت له من المعارف ومهارات الأداء ما أتاح له أن يزاحمها في الإنتاج ويقاسمها الأسواق إن نقد الذات الكليلة هو مفتاح تحريكها وتغييرها نحو الأفضل أما تمجيد النفس المتخلفة البليدة الراسفة في القيود فهو ترسيخٌ للتخلف وتأكيدٌ للأصفاد وطمسٌ لقابليات التألق إن التخلف واقعٌ مشينٌ فينبغي أن نسخط عليه ونتخلَّص من أسبابه...أسباب الإعجاب ليكن، ونحن معك في هذه المطالبة، ولكن أستاذ إبراهيم هل يمكن أن تلخص لنا سبب إعجابك بالحضارة الغربية في نقاط كي نستطيع وضع قاعدة للتحاور؟ ليس سبباً واحداً وإنما ألف سبب كلها تدفعني إلى الإعجاب الشديد بالغرب وتأكيد امتيازه المطْلق في كل شؤون الدنيا إن الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة التي حررت الإنسان من أوهامه وأصفاده واعترفت بفرديته ووفَّرت له الإمكانات والفرص لبناء ذاته وتحقيق طموحه وأَنْسَنَتْ السلطة ووضعتْ من الآليات ما يكفل المساواة النسبية ويحقق العدل النسبي ويمنع الجور ويستسخف العدوان وهذا لا يعني أنـها حضارة من دون نقائص بل هي مليئة بالنقائص لكنها أعظم ما توصل إليه الإنسان في تجاربه الكثيرة خلال التاريخ الطويل فقد ظلَّت البشرية مكبلة بالاستبداد والعجز والفقر والظلم والمرض والتعاسة إنـها حضارة استثنائية وليست امتداداً للحضارات القديمة باستثناء الحضارة اليونانية التي هي منبع الحضارة المعاصرة وقد أنجزتُ كتابا عن هذه الطفرة الحضارية العظيمة الاستثنائية بعنوان ( التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية ) إن حضارة الغرب نتاج ذاتـها وليست مدينة لأية حضارة سابقة باستثناء الحضارة اليونانية التي هي امتداد لها وإحياء لفتوحاتـها في مجالات الفكر والعلم والأدب والسياسة والاجتماع واحترام الإنسان وتمجيد العقل والاعتراف مع ذلك بقصوره وأوهامه والتأكيد على حاجته الدائمة إلى النقد والمراجعة والتصحيح... حديثك هذا تنسف به كل جهود وإبداع الحضارات السابقة كالحضارة الإسلامية، بأنها الغرب لم يفد منها ؟ نعم ولا لأية حضارة سابقة من غير استثناء.. إن الحضارة الغربية تأسست في اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد ثم توقَّفَتْ في العصور الوسطى ثم استأنفت مسيرة الصعود في العصر الحديث وعمَّتْ خيراتـها كل الأمم فهي حضارة استثنائية بكل ما يعنيه الاستثناء من امتياز وتفرُّد وجدَّة فليست مدينة لأية حضارة وإنما هي نتاج ذاتـها إنـها ذات مكوَّنات وخصائص تختلف بـها عن كل الحضارات السابقة واللاحقة إنـها نتاج الفكر الفلسفي الذي أبدعه اليونانيون فقد اعتمد الأوربيون على هذا الفكر خصوصاً الجانب النقدي منه فحفز قابلياتـهم وطوَّر قدراتـهم ومكَّنهم من إنتاج المعرفة الموضوعية المفتوحة دوماً للمراجعة والتصحيح والارتقاء إن الثقافة اليونانية قد أنجزت ابتكار الفلسفة بما تعنيه من تأمل عميق وانفتاح مطلق ونقد لاذع ومراجعة فاحصة واعتراف بقابليات الإنسان للتلبس بالأوهام ككائن مقلَّد وذاتي التفكير ما لم يخرجه الفكر النقدي من هذه الذاتية التلقائية..الغرب يعترف بالفضل يا رجل بعض المفكرين الغربيين كتبوا نصا أن الحضارة الغربية امتداد لحضارات سبقتهم..وأنت العربي المسلم تنفي ذلك ؟ حين نراجع أسماء الفلاسفة والعلماء المسلمين الذي نوَّه الغربيون بفضلهم على الغرب من أمثال ابن رشد وابن الهيثم وابن سيناء والفارابي والرازي والخوارزمي وأمثالهم نجد أنـهم جميعا قد تتلمذوا على الثقافة اليونانية وكانوا أفراداً خارج النسق السائد وكانوا وما زالوا غير معترف بـهم في ثقافتنا بل لقد أحرقنا كتبهم وضيَّقنا عليهم وحذَّرنا منهم ومازلنا ننظر إليهم بالريبة والاشمئزاز فكيف نفخر بأفراد نحن استبعدناهم وأنكرنا فكرهم وحاولنا استئصالهم؟!!!أما في مسألة التطور الحضاري فيوجد اتجاهان : اتجاهٌ يرى أن الحضارة نتاجٌ تراكميٌّ وهذا اتجاهٌ تنقضه حقائق التاريخ أما الاتجاه الآخر فيرى أن الكم لايتحول إلى كيف إلا بطفرة استثنائية وهذا الاتجاه هو الاتجاه الصحيح المقنع الذي التـزم به فالكم لا يمكن أن يتحول تلقائيا إلى كيف أبداً وقد دلت التجارب الإنسانية بأن التقدم لا يتحقق إلا بمخاضات عسيرة تعيد تركيب البنية الثقافية بشكل يسمح لها بالانفتاح والنمو والتغيُّر وإعادة التكوين والازدهار...إن الحضارة الوحيدة التي تملك مقومات الصعود الدائم هي الحضارة الغربية بأساسها اليوناني وتكوينها المعاصر المدهش لأنـها تملك آليات النقد والحفز والمراجعة والاعتراف بعدم الاكتمال إنـها تبدأ بتأكيد أصالة الجهل وأولوية الوهم ثم تعمل جاهدة للتغلب النسبي على الجهل المركَّب والوهم المتأصَّل في الثقافات البشرية إنـها تؤمن باستحالة امتلاك الحقيقة المطلقة كما تؤمن بأن الكمال البشري محال فعلى الإنسان أن يسعى جاهداً إليه مع الاعتراف باستحالة بلوغه لذلك فإنـها الحضارة الوحيدة التي هي في حالة نمو دائم ومراجعات مستمرة وتصحيحات لا تتوقف وكشوف متصلة أما الحضارات القديمة فكانت تشبه حياة الفرد : حمل ثم ولادة ثم نمو ثم استقرار ثم شيخوخه وتدهور وموت ولم تكن تحصل في الحضارات القديمة إضافات نوعية تغيَّر مسيرة الحضارة وإنما كل حضارة تبدأ من حيث بدأت التي قبلها وتنتهي بنفس النهاية... ولكن على أنقاضها وتتم ما بدأته؟ كل حضارة كانت تـهدم التي قبلها ثم تعيد بناء ما هدمتْه ثم لا تضيف إضافات نوعية تتحقق بـها وثبة حضارية وإنما تـهجُم القبائل غير المتحضرة على المجتمعات المستقرة المتحضرة نسبيا فتستولي على السلطة وتـهدم وتدمَّر وتعيد الأوطان إلى نقطة الصفر ثم تبدأ في النشوء ثم ترتقي إلى مستوى الاستقرار فتتوفَّر أسباب الرخاء والترف لأهل السلطة ثم تبدأ عملية الانحدار وتنتهي بالسقوط من غير أن تضيف إضافات نوعية تتغيَّر بـها مسيرة الحضارة وهكذا كانت البشرية ترتقي نسبيا ثم تسقط ويتكرر المشهد على نفس الوتيرة حتى جاءت الحضارة المعاصرة ذات التكوين المغاير فحققت النمو المستمر والصعود الدائم حتى بات المحصول المعرفي والتقني للإنسانية يتضاعف كل بضع سنوات فيتحقق في سنة واحدة ما لم يكن يتحقق في قرون!!! فنحن إذن أمام حضارة جديدة استثنائية تختلف عن أي حضارة سابقة أما تغييب هذه الحقيقة الصارخة عن أذهان أجيالنا فإنه بالغ الضرر لأنه أبقانا متخلفين كما كنا وحَرَمنا من إمكانات الإزدهار الجديدة التي استخدمها الآخرون فازدهروا...انبهار كامل بالغرب دعني أسألك عن هذا الانبهار الكامل منك بهذه الحضارة.. أضواء هذه الحضارة شديدة السطوع، إنـها باهرة فلا يتجاهل سطوعها إلا العميان أما الذي يملك بَصَراً وبصيرة فلا بد أن ينبهر بـها إننا نسيء لكلمة ( الانبهار ) بسوء استخدامنا لها إن الانبهار استجابة طبيعية تلقائية للضوء الباهر أو الجمال الفاتن إن الانبهار إدراكٌ للروعة وانجذابٌ للجمال واعتراف لأهل الفضل بالفضل ولأهل الإبداع بالإبداع فهل كانت أية حضارة سابقة تحلم بما تحقق من كشوف مذهلة وعلوم دقيقة وتقنيات بالغة التعقيد والروعة وهل كان السابقون يتخيلون فتح صدر الإنسان أو رأسه وإجراء العمليات الدقيقة وترميم القلوب وتنظيف الأدمغة؟!!! وهل كانوا يتخيلون التعمق في الخلية الحية واكتشاف تكوينها المذهل ومعرفة خرائط الحياة بأدق التفاصيل وأعجب الكشوف !!!؟ وهل كانوا يتخيلون الطائرة والسيارة والهاتف ومالا حصر له من منجزات هذه الحضارة وهل تريدنا أن نعود فنكتب على الجلود والبردي ونكتب بالعيدان وننسخ الكتب بخط اليد ونركب الحمير ونتعالج بالكي ونستضيء بإيقاد النار؟!!! إن الجدال حول قضايا بمثل هذا السطوع والوضوح يشهد على أن الإنسان إذا تبرمج على شيء فإنه يصير أعمى البصر والبصيرة!!!؟  عفوا عفوا..لم يطلب منك أحدٌ أن تعود لعهد الحمير. لكن المطلوب فقط هو العدل والاتزان في التقييم التاريخي. أنت الآن تقول: إنك تريد (الاعتراف لأهل الفضل بالفضل). لكنك في الواقع جحدتَ كلَّ فضل كان موجوداً قبل الحضارة الغربية. ففي حين يتفق الجميع (شرقيهم وغربيهم) على أن المنجزات البشرية ذات طابع تراكمي، نجدك تلغي هذه القاعدة البدهية حين يتحدث عن المنجز الغربي. عاشت البشرية آلاف السنين وهي تجتر نفس الأفكار وتعيش نفس الأوضاع وتستخدم نفس الوسائل والأدوات وكان ممكنا أن تستمر إلى الأبد لولا بزوغ الفكر الفلسفي في اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد إن التقدم الحضاري بمستواه الحالي لا يمكن أن يتحقق بالتراكم وإنما هو نتاج ثوارت عظيمة في مجالات الفكر والعلم والسياسة والاجتماع والعمل فالإنسان كائنٌ تلقائي وهو كائنٌ مقلَّد ولا يخرجه عن رتابته التلقائية سوى صراع الأفكار وتوفُّر الحريات وتكافؤ الفرص وتعدُّد الخيارات وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من الشعوب في الوقت الحاضر تعيش في دَرَكات التخلف رغم توفر العلوم والتقنيات والأفكار إنـهم يشاهدون تجارب الازدهار حية أمام الجميع ورغم كل ذلك عجزتْ هذه الشعوب المتخلفة عن مبارحة خنادقها والانفكاك من أغلالها أي أنـها لم تستطع تقليد ومحاكاة المزدهرين فهي إذن أشد عجزاً عن الابتكار والمبادرة...الجوانب الروحية والقيمية يا أستاذ إبراهيم، هنا سؤال مفصلي في سجالنا، هل مفهومك للحضارة هو في جانبها المادي فقط؟ أهم ما أنجزته الحضارة الغربية هو أَنْسَنَة السلطة وتوزيعها وإيجاد التوازن بين أركانـها إن الحضارة الغربية قد جعلت الأولوية في الاعتبار للإنسان الفرد فطوَّعَتْ مؤسساتـها وقوانينها وإجراءاتـها ورؤاها لهذا الاعتبار المبدئي أما في الحضارات القديمة فلم يكن الفرد أكثر من خلية في جسم أو تُرساً في آلة... ترساً في آلة؟! وبرأيك حتى الحضارة الإسلامية فعلت هذا ؟ يجب التفريق الحاسم بين الإسلام ذاته وبين ما يمارسه الناس باسمه إن مبادئ الإسلام العظيمة وتعاليمه السامية التي أكدت قيمة الإنسان وفرضت احترامه لم يُتح لها خلال التاريخ أن تتوطد فمنذ انتهاء الخلافة الراشدة أصبحت فردية الإنسان في التاريخ العربي مطموسة فقد ارتبطت قيمة الإنسان بانتمائه السياسي أو المذهبي أو الإقليمي أو العشائري أما الإنسان الفرد فلا قيمة له إلا بمقدار قربه من السلطة أو انتمائه لهذا المذهب أو ذاك أما الحضارة الوحيدة التي اعترفت بالإنسان الفرد واحترمت خياراته فهي الحضارة الغربية وحْدَها إن التعاليم العظيمة التي جاء بـها الإسلام ثم لم يعشها الناس في واقع حياتـهم لم تترك أثراً دائماً وتلقائيا في نفوسهم فالسلوك في أي مجال ليس نتاج التعاليم وإنما هو نتاج الممارسة والمعايشة لأنه لابد أن يكون انسياباً تلقائيا فالإنسان كائنٌ تلقائي ولا يؤثر فيه إلا ما كانت الاستجابة له تلقائية... ما ترمي به من أوصاف هل هو على امتداد تاريخنا العربي؟ نعم كل التاريخ العربي باستثناء فترة الخلافة الراشدة وفترات متقطعة كفترة عمر بن عبد العزيز ينطبق عليها هذا التشخيص المأساوي فلا يجوز أن نخلط بين مبادئ الإسلام السامية وتعاليمه العظيمة وبين تاريخنا المليء بالأخطاء والتجاوزات والمآسي فعندما انتصر العباسيون على الأمويين فرشوا البُسط على القتلى وراحوا يأكلون فوق الجثث إمعاناً في الانتقام والتشفي وحين انتصر المأمون على أخيه الأمين سلَخَ جلده كما يُسلخ الخروف!!! ويتكرر المشهد في التاريخ العربي على امتداده فالسلطة هي القيمة المحورية في الثقافة العربية ففي هذا العصر تلاحقت الثورات في العالم العربي نزاعاً على السلطة وليس محاولة للتغيير نحو الأفضل بل اللاحق يكون أسوأ من السابق...  أستاذ إبراهيم، ألم تقرأ في تاريخ أمتك عن مئات العلماء الذين كان لهم ثقلٌ وشأنٌ، وسيرتهم تدرس إلى اليوم، مع أنهم لم يملكوا سلطاناً ولا عشيرة ولا انتماء مذهبي ولم يكن لهم قيمة إلا بما حملوا من علمٍ؟! هذا كلامٌ عامٌّ ليس له رصيد من الحقائق فالتاريخ في كل فتراته عدا فترة الراشدين كانت توجهه السياسة فحين سيطر الفاطميون على مصر وشمال أفريقيا صارت ذات طابع شيعي وحين قضى صلاح الدين الأيوبي على الفاطميين طارد كل شيء له علاقة بالتشيُّع ونجد العكس تماماً حين حوَّل الصفويون إيران إلى التشيُّع مما جعل العثمانيين ينحون منحى معاكساً وهكذا فالتاريخ العربي أو الإسلامي بمعناه الأوسع هو نتاجُ التلقلبات السياسية إنه سلسلة من تطويعات الثقافة لأهواء البشر...الحكم بمنظار التاريخ دعني أتوقف معك هنا، أنت تمارس انتقائية عندما تختزل التاريخ الإسلامي بالتاريخ السياسي للأمة الإسلامية، والتاريخ السياسي رغم ما فيه من مآسي إلا أنه ليس بتلك الدرجة التي تضخمها وتتناسى في المقابل التاريخ العلمي والجاد للأمة والبعد الحضاري في التاريخ الإسلامي الذي نقل الناس إلى أبعاد مدنية عظيمة في الوقت الذي كانت أوروبا ترزح فيه تحت حكم الإقطاع والكنيسة والجهل والتخلف. نحن نتوارث مسلَّمات ثابتة عن تاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى من دون أن نقرأ تاريخنا قراءة نقدية فاحصة ومن غير أن نقرأ تاريخ الآخرين بموضوعية وإنصاف فالحضارة اليونانية الباهرة ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد وبلغت ذروة إزدهارها في القرن الخامس قبل الميلاد أي أن الحضارة اليونانية ظهرت قبل الحضارة الإسلامية بقرون وكانت الفلسفة اليونانية هي المصدر الذي استمد منه الفلاسفة المسلمون فلسفتهم فالأفراد الذين نفاخر بـهم أحيانا من أمثال ابن رشد وابن الهيثم والرازي والكندي والخوارزمي والفارابي ..كانوا تلامذة للفكر اليوناني أما حضارتنا فهي حضارة دينية وفقهية إنـها مستغرقة بتفاصيل ما يجب على المسلم أن يفعله وما يجب أن يكفَّ عنه في علاقته مع الله وتفاعله مع الآخرين وهذه مهمة عظيمة وتستحق التبجيل لأن الدين محور الحياة لكن يجب أن نعترف بأن انجازاتنا إنحصرت في هذا المجال العظيم فلا ندعي أيضا بأن الغرب اقتبس منا أنواره الدنيوية... إن ثقافتنا كانت ومازالت مستغرقة بمسائل الحلال والحرام والكفر والإيمان لأنـها أساساً حضارة دينية لقد خرج العرب من جزيرتـهم دعاة إلى دين الله الحق وظلوا أوفياء لهذه المسؤولية العظيمة حتى حين تكون الدولة غير عربية كالدولة العثمانية تبقى ملتـزمة بـهذا الإهتمام المحوري...  كونهم تتلمذوا على الحضارة اليونانية، فهذا ليس عيباً. فهكذا هي الحضارات الناشئة، تستفيد من الحضارات السابقة، وتبني عليها؟، فهل كان المطلوب من هؤلاء أن يلغوا منجزات اليونان، ويبدأوا من الصفر؟ لست أعترض على التتلمذ إنما أردت أن أوضح أنـهم ليسوا نتاجنا فأولئك الأفراد الأفذاذ لم يكونوا نتاج الثقافة العربية وإنما كانوا نتاج الثقافة اليونانية فهم بالنسبة لنا خارج نسقنا الثقافي فتعامَلْنا معهم على أساس أنـهم نوابت غريبة فعملنا على استئصالهم كما تُستؤصل النباتات الضارة من الحقول فلا يحق لنا أن نفخر بـهم مادمنا قد رفضناهم وحاربنا أفكارهم ومن ناحية أخرى فإن استفادة أوربا منهم هي من نوع بضاعتنا رُدَّتْ إلينا لأنـهم امتدادٌ للثقافة اليونانية التي هي مصدر حضارة الغرب برمتها...
من منتدى محاور

ليست هناك تعليقات: