باب الحارة ظاهرة تطرح ألف سؤال
كتبه: محمد نمر المدني
باب الحارة ظاهرة عربية لابد من مناقشتها وطرح الكثير من الأسئلة حولها:1. فهل ما شاهدناه على الفضائيات هو مسلسل؟2. وهل هذا العمل يمكن اعتباره سرد لأحداث تاريخية ؟3. وهل يعبّر المسلسل عن الشام ويعطي صورة عن الحياة الشامية والدمشقية؟4. وهل من الصحيح تعزيز ظاهرة العنترية والقبضاياتية؟5. وهل أصبح هذا الشكل الذي يقدمه المسلسل هو الثقافة الصحيحة التي يتوجب علينا أن نعتز بها وننقلها للأجيال الشابة؟. بكلمة واحدة نجيب على كل هذه الأسئلة ونقول ((كلا)). بل ويمكننا اعتبار مسلسل باب الحارة الذي حاز على أكبر نسبة من المشاهدة, أسوأ عمل تلفزيوني عربي لهذا الموسم. ففي أحد أحياء دمشق وبعدما انتهى عرض الحلقة العاشرة خرج المتأثرون به إلى الطرقات يتنادون بألقاب وأسماء وعنتريات مماثلة لما عرضه المسلسل, وتطور الخلاف فخرجت البنادق والمسدسات إلى الشوارع وأطلق الرصاص فأصيب شخصين. أحدهما طفل بريء كان يعبر الطريق نرجو له الشفاء.بل إن كل شوارع دمشق التي أعرفها كانت تفرغ من الناس, وتتوقف المحال التجارية ويقل عدد السيارات والحافلات أثناء عرض ما يسميه الناس بالـ (المسلسل).نحن الكتّاب قبل أن نكتب سطراً واحداً نسأل أنفسنا عن الهدف من الكلمة والعبارة والمقولة والمقال والقصة. فماذا يمكن أن يقال عن كتابة ألفي صفحة (تشكل نص المسلسل) غير محددة الأهداف؟. هل يعجز الكتّاب عن خلق نص عظيم ذو أهداف ثقافية وتاريخية وتربوية رفيعة؟. بالطبع لا. فالكتاب سوريون وعرب قادرون على إدهاش المشاهد ورفعه إلى قمة القمم. فهل يتعذّر على شركات الإنتاج الالتقاء بكتّاب حقيقيون وبنصوص رفيعة المستوى.؟.بالطبع لا.لكن الشركات تضطر للجوء إلى نصوص روايات سورية قديمة وروايات أخرى قديمة ومترجمة عن التركية.!. ونصوص أخرى قليلة الأهمية, فتجعل منها مسلسلات طويلة ويقول المشتغلون هناك بأنهم يفتقرون للنصوص.فقد حدث معي شخصياً, وأن عرضت نص مسلسل كامل على إحدى شركات الإنتاج , فماذا كانت النتيجة؟1. على الهاتف أخبرتني السيدة أو الآنسة, بأنهم ليسوا بحاجة لأي نصّ على الإطلاق. 2. وعلى الهاتف أخبرتني أيضاً بأن لا ضرورة أبداً لعرض المسلسل على الشركة لأن أحداً لن يقرأه.3. وعلى الهاتف أخبرتني أيضاً, بأنني إذا ألححت على وضع النص لديهم, فسوف يلقى في الخزانة دون أن يطلع عليه أحد, وقد يعاد إليّ بالتأكيد مع عدم الموافقة.كان لا بد لي من الذهاب إلى مكتب الشركة وأن أقوم بالتعريف على نفسي, وبتعرفهم على ميزات النص الذي أعرضه عليهم. ورغم ذلك فقد قدمت السيدة (الجميلة) نفسها الاعتذار الشديد. وأكدت بأنهم لن يقرؤوا النص ولا حاجة لهم بأي كاتب ولا بأي نص. وبالطبع فهي لم تكن تعير كلامي أية أهمية لأنها لا حاجة لها بسماع أحد من خارج التكوين الذي اعتادت الشركة عليه. واكتفت الآنسة أو السيدة الجميلة بالقول بأن لا أحد من الإداريين يمتلك الوقت للمقابلتك.وأثناء ذلك الحوار غير المفيد وغير المثمر, الذي لم يطل أكثر من خمس دقائق, عبر مكتب الاستعلامات شخص ما, فالتقى بالممثلة التي لا أعرف اسمها, فسألته: - ألست أنت أبو (....) صاحب مصنع (....) ؟. فأجابها بنعم وبأنه باع المصنع وتفرغ للعمل في الإنتاج التلفزيوني هنا.!. لكن الممثل قال للمثل الآخر باللهجة الشامية: ( نيّموك 11 سنة, وهلق وقت رفعوك على وجه الدنيا وساووك نجم كبير رح تنزع اسمك وتمثل في إعلان تلفزيوني؟.). كان ذلك في حوار بين فنانين شهيرين لكن الكاميرا كانت خفية. وتصور دعابة مسلية للناس الذي يزعمون بأنهم تعبوا من صيام يوم كامل في رمضان فأرادوا أن يضحكوا بعدما استيقظوا وفطروا وآلمتهم بطونهم. ورغم أن هدف الكاميرا كان إضحاك المشاهد, لكن الفنان الأستاذ قال تلك العبارة بحق وهو لم يكن يعلم بوجود الكاميرا تسجل صوته في ذلك المطعم. فما هي قصة تلك الشركات التي تقدر على تنويم وإنهاض أي ممثل؟. ثم أليست تلك المقدرة والقوة (المالية ) التي تملكها تستطيع أن تتحكم أيضاً بنوع النص وبثقافة المشاهد. ثم والجريمة الأكبر تكمن في نوع الثقافة العامة التي سينشرها التلفزيون العربي.وفي برنامج (تنفيعي وإعلاني) لا أعرف اسمه, كانت المذيعة التي لا أعرف اسمها أيضاً تجول بين الناس, فسألت خمسة شبان عن اسم الشخص الذي ألّف كتاب (العبرات). بالطبع لم يستطع أحد أن يجيبها. فأعطتهم ثلاث احتمالات ورغم ذلك لم يجبها أحد. وبالطبع فقد توقع أحدهم أنه نزار قباني.!. وفي نفس البرنامج كانت أسئلة أخرى عن اسم الممثل الذي قام بدور فلان. فكان الشباب يجيبون بشكل صحيح بالطبع.وفي لقاء عبر فضائية لا أعرف اسمها, مع ممثلة شابة لا أعرف اسمها, دار الحديث والحوار (القيّم بالنسبة لهم) حول زواج سابق للمثلة وطلاقها ثم تزوجها مرة أخرى من الفنان الذي لم أحفظ اسمه. أهذه هي الثقافة الجديدة التي يجب ترويجها للجيل الجديد.؟. أهذه هي علوم العصر؟.أثناء عملي في التدريس ورغم مشاغبة طلاب الصف العاشر في واحدة من أهم مدارس سورية. كنت أعلمهم الفعل الفرنسي الذي اشتقت منه الصفة (...) فسألني الطالب الذي لم أتعرف على اسمه. وقال: كيف تكون صيغة السؤال في الإمتحان؟. أجبته بأن هذه الكلمة لن تكون موضوع سؤال امتحان. فقال بأنه لا حاجة لحفظها ولا لكتابتها. فاحتج كثير من الطلاب احتجاج حقيقي وهم يعتقدون بأنهم على حق. وكانت حجتهم أن لا حاجة لأن يعرض المعلّم عليهم معلومة (من خارج المنهاج, ولن تكون موضوع سؤال امتحاني). فهل من الممكن أن يقرأ هؤلاء كتاب فكر أو رواية أو مقال صحفي؟. بالطبع لا. لكنهم بالطبع يستطيعون الإجابة على ألف سؤال من نوع ..( متى تزوجت المغنية ... ولماذا طلقت الأخرى.؟.). هؤلاء الطلاب ومثلهم جيل كبير من الشباب أصبحوا يمتلكون مقياس واحد للقراءة والعلم, وهو مقياس يعني (مقدار ما يعطني كل سطر أقرأه, من المال أو العلامات في الإمتحان). وعلى هذا فلو أننا طلبنا منه قراءة مقال حول العولمة مثلاً, فسوف يتوجب علينا أن نمنحه مقابل قراءته مئة دولار. لأنهم لا يقرؤون إلا بأجر أو بمقابل ملموس يحصلون عليه مباشرة. وعندئذ سيصبح مقالي هذا الذي سأدرجه مجاناً على صفحات الأنترنيت سيصبح عملاً عبثياً بحسب مقياس الجيل الجديد. فأنا لم أقبض أي ثمن مقابل كتابته والتفكير فيه لمدة شهر كامل. لكن هل من الجائز أن يكون هذا الجيل قد اغترب وقلّد الغرب بالبحث عما هو مفيد بشكل سريع وترك ما لا يعنيه.؟. وهل تصبح طريقتهم أكثر حداثة من طريقتنا نحن؟ بالطبع لا.. فمزاعمهم مرفوضة, لأنهم يبحثون عن معارف ويشتغلون بحفظها وهي لاتفيدهم ولن تفيدهم بشيء, فهم يبحثون عن اسم الممثل الذي أحب أو تزوج الفنانة ... ويتناقشون مطولاً في نتائج عمليات تجميل الوجه التي أجرتها الفنانة فلانة...وفي إحدى الساعات قضيت أنتظر في مكتب السيد فلان, فاضطررت لسماع مناقشة الموظفين والموظفات.. فقد احتدم النقاش حول ميزات كثيرة جديدة لتعبئة الوحدات في الخطوط الهاتفية وطريقة تحويلها وتكاليف أخرى وميزات كثيرة.. يمكن جمعها في كتاب تصل صفحاته إلى مئتي صفحة. وكل ذلك يحفظه أولئك المتناقشون وأمثالهم عن ظهر قلب. فمن هو المسئول عن موت الفكر في عقل الجيل العربي الجديد؟.هل هو ذلك الشخص الذي كان يعبر الممر حين سألته الممثلة التي لم أعرف اسمها عن مصنعه؟.بالطبع فهو يحمّل المسئولية لغيره, ويقول بأن الفضائيات العربية التي تشتري العمل هي التي تملي عليه الشروط المتعلقة بمواصفات النص والعمل التلفزيوني بشكل كامل. لكن تلك الفضائيات تتفق كلها على أمر واحد وهو عرض نفس المسلسل الرديء. وتختلف فيما بينها في كل الأمور الأخرى. ثم إن الطلاب الذين طلبوا مني ثمن تعلّمهم كل كلمة أو قاعدة لغوية فرنسية هم أنفسهم لا يطالبون الفضائيات بأي ثمن حين تعلمهم بأن الفكر والثقافة والقيم والمثل والتاريخ والمستقبل كله ينحصر بمشاهد وعبارات من مسلسل شوارعي, أو بسيل من (العلوم) المتعلقة بطلاق تلك وزواج هذه. فلماذا هذا التناقض في عقول طلابنا أو الجيل الجديد كله.؟. ومن المسئول عن صناعة هذا التناقض في عقول الجيل الجديد؟. هل نعتبر نحن المثقفون المسئولون عن كل تلك المشكلات ؟.تلتقي الفضائيات مع فنانين وفنانات في كل ساعة, ويمكنهم التحدث بما يشتهون, وتعليم المشاهد كل ما يريدون. وتلك هي الفضائيات التي تشاهدها الأسر والأفراد عادة أكثر من غيرها. فهي التي ترسل الثقافة الشعبية او العامة. وبنفس الوقت فالثقافة الشعبية تحرم أهل الثقافة أنفسهم من التعبير عن آرائهم أو ترويجها والمدافعة عنها. لكنني أنا كمثقف وكاتب قمت بدوري بالفعل وبقيت سنتين أفكر بجهد وتعب وبمشقة كبيرة وأكتب نص مسلسل يطرح المشكلة ويمنح المشاهد بأسلوب لطيف وممتع أفكار قيّمة. ومثلي آلاف من المثقفين الحقيقيين يجهدون في البحث والتخطيط والسعي لتثقيف الجيل العربي الجديد. فما هي مشكلتهم أو مشكلتنا نحن كمثقفين حريصين على تعليم القيم والفكر والثوابت الصحيحة.؟.مشكلتنا كما أسلفت بأن كتبنا لا تطبع وإذا طبع كتاب منها فلن يقرأه هؤلاء, وإن اقتناه أحدهم فلن يتقيد بفكره. ونصوص المسلسلات التي قد نكتبها لا حاجة لأية شركة إنتاجية بها. فأولئك اكتفوا بأن يصنعوا القصة ربما أثناء التصوير.. بل لا حاجة لهم بالقصة ولا بالفكرة ولا بالهدف ولا بأي شيء على الإطلاق. فمسلسل من ذاك النوع سيباع ويعرض ويشاهد ويحوز على جوائز حتى لو كان ميتاً.لا يمكن أن يتوقف المقال عند هذه النقطة بل يجب التوسع به كثيراً, والبحث ربما عن الشخص الذي قال مرات كثيرة بأنه يحمل مشروع كبير لتغيير الثقافة عند العرب والمسلمين, وذلك الشخص طلب بإنشاء مدارس بديلة عن المدارس الدينية في أفغانستان. وتحدث عن ما أسماه,( ضرورة تحديث التعليم والمناهج) وقام ذلك الشخص أيضاً بانتقاد العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية وطالب علناً بتطويرها . فهل يمكننا الربط بين خطط ذلك الرجل القصير القامة, وبين حال الثقافة في مجتمعاتنا؟. سيقول البعض بأننا نهوّل الأمر كثيراً, ونعطه أكثر من حجمه, فتلك شركة إنتاج, وذلك كاتب والآخر ممثل.. فالأمور ليست معقّدة بهذا الشكل. لكن أحد مدراء شركات الإنتاج قال لي بأننا تسلمنا شروطاً جديدة لأي عمل تلفزيوني وهذه هي.. فقد كانت كل الشروط تحمي الرجل الذي أعلن عن الخطط الثقافية الجديدة, وتحافظ على شروط مشروعه. وإن لم نتقيد بها, فلا أحد سيموّل العمل كله, وربما لا أحد سيتبنى عرضه, فالعمل سيخسر. لكن صاحب المصنع الذي تحوّل إلى مهنة الإنتاج التلفزيوني يرغب بالربح لا بأي شيء آخر. فهو يريد أن يقبض أموالاً. وطالب الصف العاشر الذي فتن طلاب الصف كلهم وجعلهم ينتقدون المعلّم هو أيضاً يبحث عن الربح, والممثل الذي نام أثني عشرة سنة هو أيضاً يبحث عن الربح وكسب المال. والشباب الذين جلسوا في المطعم يتلقون أسئلة حزورة رمضان ولم يعرف أحد منهم اسم كاتب (العبرات) حصل على المبلغ دون أن يعرف الجواب. ولأجل ذلك فقد وافق الممثل على عرض مشهد مضحك صورته له كاميرا خفية. فهو يعتبر أن المبلغ الذي حصل عليه مقابل تلك المهزلة يبرر أخطاءه وعثراته وحتى الكشف عن سرّ تنويمه لمدة اثنتي عشرة سنة. إنهم جميعاً يقبضون في النهاية رغم كل شيء.فيما الكاتب الحقيقي يعرض مقالاته بالمجان ودون أن يحصل على أي مبلغ مقابل أتعابه